[b]بسم الله الرحمن الرحيم
مشاكل شرط التحكيم
قد
يرد شرط التحكيم بصيغة عامة مجملة دون تفصيلات، وهذا جائز وهو الغالب في
الحياة العملية. ولكن تبدو خطورة ذلك أحيانا في التحكيم المؤسسي، حيث يتفق
الطرفان على مؤسسة أجنبية غريبة عنهما. إذ قد يؤدي ذلك إلى تعيين هيئة
التحكيم، أو أحد أعضائها، من أشخاص غير ملمين بالنظام القانوني الواجب
التطبيق على النزاع، بل قد لا يكونوا ملمين بلغة التحكيم. ومثال ذلك ان
يحيل شرط التحكيم ما بين شركة أردنية (أ) وشركة ألمانية (ب) إلى التحكيم
وفق قواعد غرفة التجارة الدولية، ويقع النزاع بين الطرفين ويكون القانون
الواجب التطبيق على النزاع هو القانون الأردني. يعين (أ) محكمه من الأردن
و(ب) محكمه من هولندا، وتقوم غرفة التجارة الدولية بتعيين فرنسي رئيسا
لهيئة التحكيم. في هذا المثال، قد لا يكون (ب) و (ج) ملمين بالنظام
القانوني الأردني، ومع ذلك يشكلان أغلبية هيئة التحكيم، مع ما يترتب مع ذلك
من خطورة على عملية التحكيم. ويزداد الأمر تعقيدا إذا افترضنا ان لغة
التحكيم هي العربية، وكان المحكمان المذكوران لا يعرفانها.
ربما يكون من
الواجب الأدبي لمؤسسة التحكيم المعنية ان لا تعين هيئة التحكيم إلا وفقا
لكفاءات ومواصفات معينة، من ضمنها معرفة غالبيتهم ولو بشكل إجمالي بالنظام
القانوني الواجب التطبيق على النزاع وبلغة التحكيم. إلا ان هذه المؤسسة أو
تلك، قد تجتهد في قرارها، مما يؤدي أحيانا إلى تلك النتيجة غير المرضية.
لذلك، فان صياغة شرط التحكيم يجب ان تعطى الأهمية اللازمة لها بما يضمن
تشكيل هيئة التحكيم تشكيلا معقولا، يتفق مع طبيعة النزاع وظروفه المختلفة.
وقد يكون من المهم ايضا ان يبين شرط التحكيم مواصفات المحكم الذي سينظر
النزاع. وفي هذه الحالة، يجب على مؤسسة التحكيم المعنية التقيد بإرادة
الأطراف، وإلا كان تشكيل الهيئة معيبا مما قد يؤدي إلى الطعن بقرار
التحكيم، بالإضافة إلى السمعة الأدبية لتلك المؤسسة.
: تفسير اتفاق التحكيم
ويخضع
تفسير اتفاق التحكيم للقواعد العامة في تفسير العقود. ومن هذه القواعد انه
إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها بحجة تفسير العقد.
وإذا كان هناك محل لتفسير العقد، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين،
مع الأخذ بالاعتبار لطبيعة التعامل السابق والأعراف. وإذا كان هناك شك في
تفسير بند من بنود العقد، فان هذا الشك يفسر لمصلحة المدين. ومع ذلك، اتجهت
بعض أحكام القضاء إلى القول أن الإحالة للتحكيم هي خروج عن الأصل أو هي
استثناء منه. لذلك، يجب تفسير الاتفاق تفسيرا ضيقا ما أمكن(15). ومثال ذلك،
أن ينص بند التحكيم على انه يتعلق بتنفيذ العقد. في هذه الحالة، لا يطبق
الشرط على فسخ العقد أو بطلانه. ولكن يمكن القول بصعوبة تطبيق هذا الاتجاه
على التحكيم الدولي، حيث يميل الاتجاه لصالح التحكيم أي تفسير شرط التحكيم
تفسيرا واسعا بما يشمل عقد الاختصاص لهيئة التحكيم. فمثلا، قد ينص العقد في
أحد أحكامه على اختصاص القضاء، ولكن في حكم آخر ينص على الإحالة إلى
التحكيم. في هذا المثال يعتد ببند الإحالة إلى التحكيم وليس ببند بند
الإحالة إلى القضاء. ولو تم الاتفاق على إحالة النزاع إلى غرفة التجارة
الدولية في سويسرا، فانه يحكم بصحة هذا الشرط بالرغم من عدم وجود تلك
الغرفة في جنيف وانما باريس، وعندئذ يحال إلى النزاع إلى الغرفة في باريس.
التحكيم الحر والمؤسسي(16)
وينقسم
التحكيم إلى تحكيم طليق أو حر وتحكيم مؤسسي. وأساس هذه التفرقة هو اتفاق
التحكيم ذاته. فحيث يشير الاتفاق الى تسوية النزاع تحكيما عن طريق مؤسسة
تحكيمية، نكون
أمام تحكيم مؤسسي وإلا كان التحكيم حرا. فمعيار التفرقة
اذن شكلي من حيث وجود مثل تلك الإشارة أو عدم وجودها في اتفاق التحكيم.
ومثال ذلك، ان يتفق الطرفان على إحالة النزاع أمام مركز القاهرة الإقليمي
للتحكيم التجاري، أو مركز البحرين، أو مركز دول الخليج العربية، أو غرفة
التجارة الدولية. وتجدر الإشارة هنا إلى ان كل مركز من هذه المراكز أو
غيرها المنتشرة بشكل واسع في العالم، يكون له قواعده التحكيمية الخاصة به،
وهي عموما تتعلق بتشكيل هيئة التحكيم ورد المحكمين وبعض القواعد الخاصة
بإجراءات التحكيم ونفقاته. فحيث يحيل الأطراف لقواعد هذا المركز أو ذاك،
يكونوا قد ارتضوا بإرادتهم الخضوع لتلك القواعد، وكأنها أصبحت جزءا من
اتفاقهم، بل هي تعتبر كذلك من الناحية القانونية. اما حيث يكتفي الأطراف
بالإحالة إلى التحكيم فحسب، يكون التحكيم حرا وليس مؤسسيا، وعندئذ يتم
تشكيل هيئة التحكيم وإعداد إجراءاته اما بالاتفاق، وهذا هو الأصل، أو وفقا
للقانون (الوطني) الواجب التطبيق على هذه الأمور. ويجوز للطرفين في أي وقت
العدول عن التحكيم الحر واللجوء إلى التحكيم المؤسسي بدلا منه أو العكس.
وفي
التحكيم المؤسسي، تختص المؤسسة المحال لها التحكيم بنظر النزاع دون غيرها.
فلو تقدم أحد الطرفين بطلب تحكيم أمام مؤسسة أخرى، فانه يجوز للطرف الآخر
ان يرد على ذلك الطلب بعدم الاختصاص، او حتى لا يرد مطلقا. ومن الناحية
العملية، فان تلك المؤسسة الأخرى تغلق ملف التحكيم، بل يجب عليها ذلك. فلو
فرضنا انها استمرت بالتحكيم بالرغم من ذلك، فان النتيجة العملية لذلك هو
عدم قابلية القرار الصادر للتنفيذ خاصة إذا لم يحضر الطرف الآخر التحكيم.
وإذا
كان التحكيم مؤسسيا، يجب على الجهة المعنية، سواء كانت مؤسسة التحكيم
ذاتها أو هيئة التحكيم، التقيد بقواعد التحكيم المطبقة لدى المؤسسة،
باعتبارها أصبحت جزءا من اتفاقهم، وإلا جاز لأطراف النزاع الطعن بأي مخالفة
بهذا الخصوص(17) . وعلى سبيل المثال، تنص القواعد التحكيمية المطبقة لدى
مركز القاهرة، وهي قواعد اليونسترال، على إحالة النزاع إلى
ثلاثة محكمين
في حالة عدم الاتفاق على محكم واحد. وفي حال تعيين ثلاثة محكمين، يعطى كل
طرف من أطراف النزاع الفرصة لتسمية محكمه، كما يعطيان الفرصة للاتفاق على
تسمية المحكم الثالث كرئيس لهيئة التحكيم. فلو اتفق الطرفان على تسوية
نزاعهم وفق قواعد مركز القاهرة، فانه يجب على المركز التقيد بتلك الأحكام،
وإلا جاز للطرف صاحب المصلحة الطعن بقرار المركز المخالف لذلك. ومن وسائل
هذا الطعن الاعتراض لدى المركز ذاته الذي يفترض فيه ان يعالج المخالفة، او
حتى الطعن بقرار التحكيم الذي صدر من هيئة مشكلة تشكيلا مخالفا للاتفاق،
وهو ما يقضي به القانون النموذجي وقوانين بعض الدول العربية مثل القانونين
المصري والعماني(18).
وربما يكون من المفيد ان نذكر هنا ان كل مؤسسة
تحكيمية، عموما، تنص على شرط تحكيم تنصح الأطراف بالأخذ به إذا رغبت
بالإحالة لذلك المركز. وعلى الأغلب، يكون مثل هذا الشرط جامعا لأي منازعة
تتعلق بالعقد أو بأي بند من بنوده أو تفسيره بما في ذلك إنهاؤه او أي
مطالبة ناشئة عنه. ومثل هذا الشرط النموذجي، يوضع لاسترشاد الأطراف به،
ولكن ليس بالضرورة الأخذ به، إذ يمكن النص على أي شرط تحكيم بالتفصيل الذي
يراه الأطراف مناسبا، ولكن مع الإشارة إلى تطبيق قواعد ذلك المركز.
استقلالية اتفاق التحكيم
تتجه
النظرية التقليدية في بعض الأنظمة القانونية إلى القول بأنه إذا كان العقد
الأصلي باطلا أو ابطل أو فسخ أو انفسخ لأي سبب، فان ذات الأثر ينصرف على
شرط التحكيم، باعتباره تابعا له وجزءا منه، فينقضي العقد برمته بما في ذلك
شرط التحكيم. فالتحكيم وجد باتفاق وهذا الاتفاق انتهى لأي سبب، فالنتيجة
الطبيعية والمنطقية لذلك هي انتهاء هذا الشرط تبعا لانقضاء الأصل(19).
اما
الاتجاه الحديث في التحكيم التجاري، وخاصة الدولي منه، فيميل إلى
استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي موضوع التحكيم، خاصة إذا ورد
الاتفاق في صيغة شرط تحكيم. ومفاد ذلك ان شرط التحكيم مستقل عن العقد ذاته،
بحيث إذا اعتبر هذا العقد منتهيا لأي سبب غير التنفيذ بصورة طبيعية، مثل
البطلان او الفسخ، فان شرط التحكيم يبقى قائما ما دام ان سبب الانتهاء لم
يلحق الشرط ذاته، بمعزل عن العقد الوارد فيه الشرط(20). ومثال ذلك ان ينص
العقد على حق المتعاقد (أ) بفسخه إذا أخل المتعاقد الآخر (ب) بأحد أحكامه
وذلك بإشعار يوجهه (أ) لـ (ب). فيخل (ب) بالحكم المؤدي إلى الفسخ، ويلجأ
(أ) إلى الفسخ فعلا. في هذا المثال، إذا تضمن العقد شرط تحكيم، فان العقد
يعتبر مفسوخا، في حين يبقى شرط التحكيم قائما ومعمولا به لتسوية النزاع بين
(أ) و (ب).
والشيء ذاته يقال فيما لو انفسخ العقد بسبب القوة القاهرة،
إذ يصيب الإنفساخ كافة أحكام العقد باستثناء شرط التحكيم. ومثال آخر لو
ابرم (أ) عقد بيع مع (ب) دون ان يتضمن العقد شرط تحكيم ، وفي الوقت ذاته،
يكون (أ) غير أهل لإبرام هذا العقد لدرجة بطلانه. وفي وقت لاحق يتفق
الفريقان على ان أي نزاع بشأن ذلك العقد يحال إلى التحكيم، وكان (أ) قد
اصبح أهلا لإبرام هذا الاتفاق الجديد. في هذه الحالة، يكون عقد البيع
باطلا، في حين يكون اتفاق التحكيم صحيحا ويعمل به. ويطبق ذات الحكم فيما لو
اتفق الطرفان على فسخ عقد صحيح ونافذ بينهما تضمن شرط تحكيم. ففي حين يفسخ
العقد، يبقى شرط التحكيم قائما لتسوية أي نزاع بينهما نشأ عن ذلك العقد.
وأساس
هذا الاتجاه ينطلق من واقع عملي وهو ان سبب شرط التحكيم وهدفه في ان واحد
هو تسوية النزاع عن طريق التحكيم بدلا من اللجوء إلى القضاء. والنزاع ستتم
تسويته في جميع الأحوال. ولا يضير هذه التسوية ان تتم عن طريق التحكيم ما
دام ان هيئة التحكيم ستفصل به وفقا للقانون الواجب التطبيق، والتي ستقضي،
مثلها مثل القضاء الرسمي، ببطلان العقد مثلا، مع تطبيق الآثار القانونية
المترتبة على ذلك، من تعويض أو إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل العقد، أو
غير ذلك حسب الحال المعروضة والظروف المحيطة بها. ويطبق هذا المبدأ حيث لا
يلحق سبب البطلان أو الفسخ شرط (اتفاق) التحكيم ذاته. فعلى سبيل المثال،
إذا أصاب البطلان اتفاق التحكيم أيضا، فان العقد برمته يكون باطلا بما في
ذلك شرط التحكيم.
والعكس صحيح أيضا من حيث انه قد يقضى ببطلان شرط أو
اتفاق التحكيم في حين تبقى شروط العقد الأخرى قائمة. ومثال ذلك أن يكون (أ)
مخولا بإبرام العقد مع عدم تخويله إحالة النزاع للتحكيم. في هذه الحالة،
يكون شرط التحكيم غير قائم والشروط الأخرى قائمة. وكذلك قد يبرم اتفاق
التحكيم بصورة مستقلة عن عقد التحكيم ويكون الأول صحيحا والثاني باطلا أو
يتم إبطاله أو فسخه. ومثال هذه الحالة ان يبرم (أ) عقد بيع مع (ج). وفي وقت
لاحق يبرمان اتفاقا مستقلا بإحالة النزاع للتحكيم. ولكن عند إبرام العقد
الثاني يكون (أ) او (ب) غير أهل لإبرامه في الوقت الذي كان فيه أهلا لإبرام
عقد البيع.
انتهاء اتفاق التحكيم
ينقضي اتفاق
التحكيم، كأي اتفاق آخر، إذا توفرت أحد الأسباب المؤدية إلى ذلك، ومنها
تنفيذه وفسخه وانفساخه. ويستوي في سبب الفسخ ان يكون باتفاق الأطراف وهو ما
يطلق عليه بالإقالة، أو بسبب إخلال أحد الفريقين بشرط من شروطه. ومثال ذلك
ان ينص اتفاق التحكيم على ان يقوم أحد فريقيه بتسمية محكمه خلال خمسة عشر
يوما وإلا جاز للفريق الآخر فسخه، ولا يقوم الفريق الأول بهذا التعيين خلال
تلك المدة فيلجأ الفريق الآخر لحقه بالفسخ. ولكن كما ذكرنا، يبقى لهيئة
التحكيم، في جميع الأحوال، صلاحية الفصل بالنزاع حول بقاء أو انتهاء اتفاق
التحكيم.
ومن الأمثلة العملية الأخرى على انقضاء اتفاق التحكيم، أن يلجأ
أحد فريقيه للقضاء لتسوية الخلاف، فلا ينازعه الآخر في ذلك، وتستمر
إجراءات التقاضي إلى حين الفصل بالخلاف قضائيا. ويمكن اعتبار مثل هذا
السلوك من الفريقين بمثابة تنازل ضمني عن اتفاق التحكيم. ويقتضي القول هنا
بأن اللجوء للتحكيم ليس من النظام العام، فلا يجوز للمحكمة المختصة أصلا
بنظر النزاع إثارة الدفع بوجود شرط تحكيم من تلقاء نفسها، بل لا بد من
إثارة هذا الدفع من المدعى عليه. بل ابعد من ذلك يجب ان يتم مثل هذا الدفع
فورا وقبل الدخول في أساس النزاع(21).
ومثال ذلك ان يعرض (أ) الدعوى
على القضاء ضد (ب) ويكون هناك اتفاق تحكيم. يجب على (ب) إذا أراد اللجوء
للتحكيم فعلا، ان يثير الدفع بذلك قبل الدخول بأساس الدعوى. ويكون ذلك إما
في صيغة طلب مستقل دون التطرق لموضوع الدعوى، أو مع الرد على لائحة الدعوى
ولكن كدفع أولي وقبل أي دفع آخر، ومن ثم، على سبيل التناوب، يمكن للمدعى
عليه الرد على موضوع الدعوى. ويجب ان لا يفسر هذا الرد على انه قبول
باللجوء إلى القضاء، ما دام ان (ب) قد أثار الدفع في بداية لائحته الجوابية
كدفع أساس