تعني السياسة المالية استخدام وسائل المالية العامة وادواتها في تحقيق اهداف معينة غير الهدف المالي المتمثل في حصيلة الايرادات العامة. ولعل اهم الوسائل المستخدمة في هذا السبيل هي الضريبة، حيث ينجم عن فرض الضرائب آثار متعددة اهمها اقتصادي واجتماعي
لذلك تتعدد الدراسات التي تبين امكانية استخدام الضرائب في تحقيق اهداف محددة، حسب متطلبات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مرحلة زمنية معينة.
وتساهم هذه الدراسة في إلقاء الضوء على ناحية من هذا الموضوع الواسع. وسوف نتناول في هذا المجال الغموض بين التهرب والتجنب الضريبي والتمييز بينهما. ثم نبين اثر التهرب الضريبي على تمويل التنمية وعلى إدارة المشروعات والمنافسة بينهما، واثره على الصناعة الوطنية، وعلى المستوى العام للاسعار، واثره في الحافز على الانتاج.
الفرق بين التهرب من الضريبة وبين التجنب من الضريبة
لقد رأى بعض الكتاب ان ليس هناك اوجه اختلاف بين التهرب من الضريبة. وبين التجنب من الضريبة فقد اعتبر البعض منهم ان التجنب من الضريبة هو المعنى الشا مل الذي يشير لكل اشكال الهروب من الضريبة. وان التهرب من الضريبة ليس الا احد هذه الاشكال فمثلاً اعتبر كل من (Duverger Tardier,Rosier,).
ان التجنب من الضريبة مفهوم مقبول، بينما التهرب من الضريبة مفهوم غير مقبول.
بينما اعتمد كتاب اخرون مثل (Lerouge,Piatier Margaritas) وجهة نظر مخالفة. فالتجنب من الضريبة في مفهومهم هو الذي ينشأ بشكل خاص عن التهرب من الضريبة، ويعني ذلك انه من المصدر نفسه.
بينما ميز معظم الكتاب بين التهرب من الضريبة والتجنب منها، واتفقوا على ان ظاهرة التهرب هي مخالفة لاحكام ونصوص القانون الضريبي، اي انه تهرب غير مشروع، بينما الظاهرة الثانية، وهي التجنب من الضريبة مشروعة وغير مخالفة لاحكام ونصوص القانون.
بمعنى ان التمييز بين التهرب من الضريبة وبين التجنب منها يعود لحسن النية والوضع القانوني لدى المكلف. فالتهرب من الضريبة هو عمل شرعي وغير معاقب عليه.
وقد ربط بين الظاهرتين الاستاذ (Martinez في كتابه التهرب الضريبي حين قال انه (بين التهرب الشرعي والتهرب غير الشرعي لا يوجد انقطاع، بل هناك اتصال، حيث تؤدي الانزلاقات المتتابعة للمكلف بالتهرب المشروع به الى التهرب غير المشروع).
ورغم ذلك فاننا نجد التشابه والتداخل من خلال ما اورده المؤلفون حول تعريف كل من الاصطلاحين فقد عرف (lerouge) التهرب في كتابه (نظرية التهرب) بانه محاولة يقصد منها التخلص من الادعاء الضريبي او من دفع الضريبة، ويرى بان هذا التهرب يزاوله المكلف في داخل الدولة التي ينتسب اليها الخاضع للضريبة وفي خارجها.
كما لاحظ مؤلف اخر هو الاستاذ (Duverger في كتابه (المؤسسات المالية) المزج بين التجنب من الضريبة وبين التهرب من الضريبة، ولكنه اضاف من جهة اخرى ان مفهوم التجنب هو اكثر اتساعاً من مفهوم التهرب. والتهرب ليس الا احدى الحالات الخاصة في التجنب، واضاف ان التجنب ينقلب الى تهرب عندما يرتكب المكلف مخالفة لاحكام ونصوص التشريع الضريبي.
ويمكننا ان نضع هذا التعريف الاقرب للواقع من جهة نظر اغلبية الكتاب.
تعريف التهرب من الضريبة
التهرب من الضريبة هو التهرب غير المشروع ويعني ذلك مخالفة المكلف للاحكام والنصوص القانونية بوسائل الغش والاحتيال على القانون بغية التوصل الى عدم الالتزام بدفع الضريبة. فوسائل التهرب غير المشروع هي مخالفات يعاقب عليها القانون، ويصعب تحديد الطرق التي يتبعها المكلف في سبيل ذلك. اذ قد يتم التهرب غير المشروع بامتناع المكلف عن تقديم بيان بدخله، او بتقديم بيان كاذب او غير صحيح. كما يتم باخفاء الاموال او باخفاء محل الاقامة ليتاح للمكلف الامتناع عن دفع الضريبة، دون ان تستطيع الادارة الضريبية تحصيل الضرائب المترتبة لها.
وقد لخص الاستاذ الدكتور (عصام بشور) تعريف التهرب الضريبي في كتابه (المالية العامة والتشريع المالي): بانه التجنب جزئياً او كلياً من دفع الضريبة. ويمكن ان يتم قبل تحقق الضريبة باستخدام بعض الوسائل التي لا تحقق التزاماً على المكلف، او بعد تحقق الضريبة بعدم ادائها الى الخزينة.
تعريف التجنب من الضريبة:
لقد نسب تعريف التجنب من الضريبة الى علماء المال الالمان والانكليز قبل عام 1914 حيث اعتبروا ان مفهوم التجنب يختلف عن مفهوم التهرب باعتبار ان التجنب يعني التهرب المشروع الذي يقوم به المكلف وذلك باستغلاله بعض الثغرات القانونية للتوصل الى عدم الالتزام بدفع الضريبة المترتبة عليه، فهذا الشكل من التخلص لا يتضمن اية مخالفة يعاقب عليها القانون.
ومن اجل بلوغ هذه الغاية يقوم المكلف بالاستعانة باهل الخبرة والاختصاص لاستنباط طرق للتخلص من الضريبة مستندين في ذلك الى خلل او ثغرة في النصوص القانونية. وقد اشار الاستاذ (Rosier بتعريفه التجنب من الضريبة الى انه (كل تحايل قانوني في الحسابات او الاساليب المادية لتجنب الضريبة).
الآثار الاقتصادية للتهرب والتجنب من الضريبة
لتهرب والتجنب من الضريبة اثار اقتصادية سلبية كثيرة اهمها:
اولاً-اثر التهرب على تمويل التنمية:
تعد التنمية الاقتصادية والاجتماعية احدى الاهداف الرئيسية للحكومات في الدول النامية، مهما اختلفت اتجاهاتها السياسية، بحيث اصبح من الممكن التعميم بالقول انها تعد احدى الاهداف النهائية للسياسة الاقتصادية لتلك المجتمعات.
ولا جدال في ان التهرب الضريبي يشكل احد المعوقات في سبيل الوصول الى تحقيق هذا الهدف من خلال ما يؤدي إليه من الخسارة التي تلحق بالخزينة العامة لبعض الحقوق التي حددتها التشريعات الضريبية المنظمة لها: ذلك لما للضريبة من دور رئيسي في التنمية يتمثل في النقطتين التاليتين:
1- ان الضريبة هي احدى الوسائل الرئيسية لتمويل التنمية الاقتصادية، فضلاً عن كونها تساعد على عدم احداث اية ضغوط تضخمية حيث ينقسم الدور التمويلي للضريبة الى جزءين
الاول- توفير الموارد المالية اللازمة لتنفيذ المشروعات الاستثمارية، فتؤدي الضريبة دوراً اساسياً في دعم القطاع العام، مما يساعد على جذب رؤوس الاموال الوطنية والاجنبية لبناء الهياكل الاساسية، ومنها رأس المال الخاص.
غير ان رأس المال الخاص لا يستطيع القيام ببعض المشاريع، لذلك ليس هناك من وسيلة للنهوض بها الا عن طريق قيام الدولة بها، وهو الامر الذي يحفز الدولة للاتجاه نحو تعبئة الموارد الحقيقية لاستخدامها في تمويل تلك الاغراض، والضريبة باعتبارها احدى هذه الموارد تتميز بانها وسيلة تمويلية غير تضخمية.
الثاني- ان الدول النامية تتميز بانخفاض معدل الادخار الاختياري فيها وتخلف سوق رأس المال، وبذلك يصعب على المستثمرين في القطاع الخاص الحصول على التمويل اللازم لفرص الاستثمار المتاحة لهم.
وهنا قد تستخدم الضريبة كاداة للحصول على موارد مالية لتوظيفها في بعض الاغراض مباشرة وذلك من اجل رفع مستويات الادخار الحكومي فضلا عن امكانية استخدام حصيلة الضرائب في رفع قدرة الجهاز المصرفي على خلق الائتمان من خلال شراء سندات حكومية ترفع من الاحتياطي النقدي لدى البنوك مما يدعم قدرتها على خلق الائتمان. ومن ثم فان النقص الذي يطرأ على الحصيلة الضريبية نتيجة للتهرب يؤدي الى اضعاف قدرة الحكومة على تمويل استثماراتها الاساسية نتيجة انخفاض قدرتها من رفع الاحتياطي النقدي لدى البنوك.
2- وبالاضافة الى النتيجة السابقة للتهرب فيما يحدثه في الدور التمويلي للضريبة، فان التهرب من الضريبة يتعداه الى اضعاف فاعلية الضريبة في امكانية استخدامها كاداة لتوجيه النشاط الاقتصادي في المسار السليم بما يخدم اغراض التنمية، ويحقق العدالة، ويحسن توزيع المدخول، ويقلل الفوارق بين الطبقات، مع ضمان مساهمة عادلة للاعباء الضريبية كما يساهم في تقييد الاستهلاك ومحاربة التضخم الذي يصاحب التنمية.
ثانياً - اثر التهرب الضريبي على ادارة المشروعات:
يؤدي انتشار التهرب وشيوعه في نوع معين من الانشطة االاقتصادية الى اجتذاب الافراد واموالهم الى حيث تتوافر فرص التخلص من الضريبة، وبالتالي تنخفض نفقة الانتاج في هذا النشاط بمقدار الضريبة، او تمثل زيادة في الايراد مما يشكل ميزة للاستثمار فيه، وقد لا يكون ذلك النشاط مفيداً بالنسبة للمجتمع، او لا تسعى الدولة الى تشجيعه، ومع ذلك يتجه الافراد اليه لما يتميز به من امكانية التهرب والتخلص من الضريبة في مجاله.
ويؤدي تفشي التهرب في هذا القطاع، الى صعوبة اعطاء البيانات السليمة عن التكلفة الفعلية للنشاط. وهو الامر الذي يؤثر على اتخاذ القرارات الاقتصادية التي تحتاجها المشروعات لا سيما فيما يتعلق بالادارة وادائها لوظائفها في المنشأة بفاعلية، سواء في مجال التخطيط او في مجال الرقابة.
حيث تأتي البيانات اللازمة لاتخاذ القرارات مبنية على اسس غير سليمة اذ لا تعبر عن حقيقة التكلفة، يضاف الى ذلك عدم امكانية اجراء التقييم المالي للمشروعات الجديدة عند القيام بدراسات الجدوى الاقتصادية، والتي تقوم على اساس تقدير تكلفة رأس المال، والتي تستلزم معه ان تكون بيانات السوق سليمة من ناحية تعبيرها عن التكلفة الاقتصادية. وهي امور تؤثر على ادارة المشروعات اذا حسبت عناصر التقدير، وكانت لا تشمل الالتزامات الضريبية التي استطاع المشرع ان يتخلص منها، وذلك من ناحية اتخاذ القرار الاقتصادي فيها.
ثالثاً- اثر التهرب الضريبي على المنافسة بين المشروعات:
يؤدي التهرب الضريبي الى اهدار شروط المنافسة بين المشروعات، حيث تكون الفرصة اكبر للمشروعات الاكثر مقدرة على التهرب الضريبي، في ان يتحقق لها التفوق على غيرها من المشروعات التي تتفوق عليها إنتاجاً او تنظيما او فائدة للمجتمع، حيث تنخفض بالنسبة لها نفقة الانتاج بمقدار قيمة ما احتفظت به نتيجة تهربها من الضريبة، وهو ما يجعل لها ميزة تستطيع معها ان تسيطر على السوق بمنافسة غيرها من المشروعات التي تعمل بحكم القانون بامتثالها للضريبة.
رابعاً-اثر التهرب الضريبي على الصناعة الوطنية:
يؤدي التهرب الضريبي الى زيادة حجم النقد المتاح في ايدي المتهربين.
مما يدفعهم الى زيادة انفاقهم الاستهلاكي وزيادة اقبالهم على السلع المستوردة والاجنبية احياناً والتي يسعى المشرع في الدول النامية الى حماية الانتاج الوطني منها، وذلك نظير تمتعها بعامل الجودة والتنوع، وهو ما تفتقده الصناعة الوطنية في بداية نشأتها، وهو ما يؤدي الى انخفاض حجم الطلب عليها بما يؤثر على سير تلك المشروعات ويضعف من صمودها امام منافسة السلع الاجنبية.
خامساً: اثر التهرب الضريبي في المستوى العام للاسعار:
يؤدي التهرب الضريبي الى انعدام فاعلية تلك الادارة في تحقيق اهداف السياسة المالية وذلك عندما تهدف السياسة الضريبية الى امتصاص النقد الزائد عن طريق خفض الطلب الفعلي الى المستوى الذي يضمن اعادة التوازن بين الطلب الكلي والعرض الكلي.
حيث تهدف السياسة الضريبية (في فترة التضخم) الى ان تسحب من المستهلكين القوة الشرائية الزائدة التي تسببت في ارتفاع الاسعار. فتؤدي الضرائب (الضرائب المباشرة) على الدخول الى تحقيق تلك النتيجة من خلال تخفيض الدخول المتاحة لهم عن طريق الاقتطاع الضريبي، ونجاح البعض في التهرب منها يؤدي الى انعدام فاعليتها كاداة لتحقيق ذلك، وهو ما يؤدي الى زيادة النقد المتاح في يد المستهلكين وزيادة اتفاقهم الاستهلاكي بما يؤدي الى تدهور قيمة النقود، وزيادة التضخم، وارتفاع الاسعــار.
ولا يخفى ما يؤدي اليه التضخم وارتفاع الاسعار بالنسبة الى هيكل توزيع الثروة والدخل القومي فيما يحدثه من اختلال في مستويات الاستقرار والتوازن الاجتماعي بين الطبقات داخل المجتمع، ولما يحدثه التضخم من تخفيض في مستوى المعيشة لاصحاب الدخول الثابتة والمحدودة، والمتولدة في اغلب الاحيان عن عنصر العمل، في حين تزيد عوائد عوامل الانتاج في حقوق التملك.
سادساً- اثر التهرب الضريبي في الحافز على الانتاج:
ان انخفاض حصيلة الضريبة نتيجة التهرب الضريبي، قد يدفع بالحكومة الى زيادة معدلات الضرائب، او فرض ضرائب جديدة، وذلك عندما يستفحل اثره ويتسع نطاقه وتزداد الحاجة الى الموارد، وهنا قد تتجاوز معدلات الحدود المناسبة للحفاظ على حوافز الانتاج، بما يدفع الى اضعاف الحافز نحو الاستثمار في مجال الانتاج.
نخلص مما تقدم الى ان الآثار المتعددة الناجمة عن التهرب والتجنب الضريبي تساهم في اضعاف تمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تؤثر على ادارة المشروعات والانشطة الاقتصادية، وتحد من المنافسة بين المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وتساهم في خفض المستوى العام للاسعار، كما يؤدي التهرب الى زيادة معدلات الضرائب وفرض ضرائب جديدة مما ينعكس على التطور والبناء الاقتصادي والاجتماعي في الدول النامية.